حديث المسلم دائم النفع

عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثونى ما هى»؛ فوقع الناس فى شجر البوادى؛ قال عبدالله: ووقع فى نفسى أنها النخلة، فاستحييت ثم قالوا: حدثنا ما هى يارسول الله؟ قال: «هى النخلة»

(أخرجه البخارى ومسلم)

من وسائل التعليم التى اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم فى تعليم أصحابه، إلقاء السؤال على الحضور لينشط أذهانهم ويجعلهم يفكرون للسؤال عن جواب، فإذا أجاب النبى صلى الله عليه وسلم على السؤال تمكن الجواب من نفوسهم أيما تمكن، ويكون الجواب عن السؤال بعيدا عن التفلت والنسيان شأن كل شىء يبذل فيه الإنسان جهدا ووقتا، ولا يلقى الكلام على أصحابه، فيسمعون إليه دون إعمال لأفكارهم، فإن ما يحصله المرء بسهولة ويسر يتفلت منه ويكون قريبا إلى النسيان.

بل قد لا يلتفت المرء إلى ما يسمع، ولا يفطن إليه أصلا، وهذا ما تميز به أسلوب النبى صلى الله عليه وسلم فى تعليم أصحابه وتربيتهم.

وهذا الحديث واحد من الأحاديث التى تبين كيف كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه، ويسيطر على أفكارهم، ويجذب انتباههم، حتى لا يتفلت ما يقوله صلى الله عليه وسلم فى أذهانهم.

وهذه أحدث طرق التعليم التى توصل إليها العلم الحديث، فلا يلقى المعلم الدرس على طلابه وهم فى غفلة عما يقول، بل لا بد من أن ينشط أذهانهم بعرض المسألة فى صورة سؤال وينتظر جوابهم، فإن وفقوا وإلا أجاب.

وفى هذا الحديث شبه الرسول صلى الله عليه وسلم النخلة بالمسلم، لأنها كثيرة النفع، وخيرها لا ينقطع، وكذلك المسلم نافع لنفسه، نافع لغيره، وخيره لا ينقطع، فهو مستمر فى حياته وبعد موته.

وجه الشبه بين النخلة والمسلم:

لقد شبه النبى صلى الله عليه وسلم النخلة بالمسلم وذلك لعموم النفع فى كل أحوالها، وإن كانت المنفعة فى المسلم أعظم وأتم، وذلك أن بركة النخلة موجودة فى جميع أجزائها مستمرة فى جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس يؤكل ثمارها بلحا ورطبا وتمرا كما يؤكل جمارها وطلعها، كما يتداوى بذلك كله أيضا.

وينتفع بالنوى فى علف الدواب، واستخراج الزيت منه، وينتفع بالليف فى صناعة الحبال، وينتفع بورقها وبجريدها فى صناعات متعددة، ولا يسقط لها ورق طوال العام، وإذا قطعت انتفع بساقها فى البناء، وغير ذلك.

وبركة المسلم عامة فى جميع الأحوال والأوقات، فهو نافع لنفسه يؤدى الواجبات الشرعية على أكمل وجه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، تاركا المعاصى والمحرمات جملة وتفصيلا، ليقينه أن صلاحه فى الدنيا وفوزه فى الآخرة مرتبط بالتزام المنهج الإسلامى فى خاصة نفسه، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل:97) وهو فى نفس الوقت نافع لغيره، فهو بار بأبويه، واصل لرحمه، محسن إلى جيرانه، عطوف شفوق بأهله وأبنائه، ناصح لإخوانه آمر بالمعروف ناه عن المنكر، لايرضى السلبية ولا يقر الانعزالية، يصدق إذا حدث ويفى إذا وعد، أمين إذا أؤتمن، مخلص فى عمله، قدوته فى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرجو من وراء أعماله الظاهرة والباطنة رضا الله تعالى والجنة، لا يستعلى على الناس بأعماله، ولا يحب أن يحمد عندهم، بل هو مبالغ فى ستر أعماله الصالحة رجاء أن يتقبلها الله منه ويثيبه عليها، ويمتد نفعه بعد موته، فلا تنقطع أعماله بموته لما ترك من علم نافع، أو صدقة جارية، أو تربية نافعة للآخرين، فيستمر أجره ما بقى عمله بعده.

الذى جعل ابن عمر رضى الله عنهما يفطن إلى الجواب بعد توفيق الله تعالى هى قرينة الحال، فإن النبى صلى الله عليه وسلم وجه السؤال وهو يأكل الجمار، ففطن ابن عمر رضى الله عنهما إلى أن المسئول عنه هى النخلة.

عن عبدالله بن عمر رضى الله عنهما قال: «كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فأتى بجمار، فقال: «إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم»؛ فأردت أن أقول هى النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكت، قال النبى صلى الله عليه وسلم «هى النخلة»

وهذا منه صلى الله عليه وسلم لا يدخل فى باب الأغلوطات «وهى صعاب المسائل» المنهى عنها، لأن الأغلوطات تحمل على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على سبيل تعجيز وتعنيت المسئول.

ما يستفاد من الحديث

1 امتحان العالم أذهان الطلاب بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه.

2 التحريض على الفهم فى العلم.

3 استحباب الحياء ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر رضى الله عنه أن يكون أبنه لم يسكت، لأنه بسكاته فوت على نفسه معرفة النبى صلى الله عليه وسلم لقدره وتقريبه منه، كما فوت على نفسه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له لو أجاب.

4 ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام وتصوير المعانى لترسيخها فى الذهن، ولتجديد الفكر فى النظر فى حكم الحادثة.

5 التشبيه لا يلزم منه أن يكون المشبه مثل المشبه به من جميع الوجوه، فوجه الشبه دائما وأبدا فى المشبه به أوضح وأتم منه فى المشبه، فالمؤمن لا يماثله شىء من الجمادات ولا يعادله.

6 قد يخفى العلم على العالم الكبير، ويفطن إليه الصغير، لأن العلم مواهب وفضل الله يؤتيه من يشاء.

7 توقير الكبير وتقديم الصغير إياه فى القول، وأنه لا يبادره بما فهمه وإن ظن أنه الصواب، لكن إذا لم يعرف الكبار المسألة، فينبغى للصغير الذى يعرفها أن يقولها.

8 الخواطر التى تقع فى القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله تعالى، فعمر رضى الله عنه أراد بما قال ليس المباهاة والعجب بابنه، ولكنه أراد أن يزداد ابنه من النبى صلى الله عليه وسلم قربا فيدعو له بالزيادة فى الفهم، والله أعلم بمراده.

9 ينبغى أن يفطن الملغز له إلى قرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، كما فعل ابن عمر، فإنه فطن إلى الجواب لأنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم يأكل الجمار.

10 ينبغى أن لا يبالغ الملغز فى التعمية، بحيث لا يجعل للملغز له بابا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع فى نفس سامعه.

11 المسلم خيره لا ينقطع، ونفعه متعد إلى غيره.

12 فى الحديث دليل على بركة النخلة وما تثمره.

المباحث اللغوية

قوله «فوقع الناس» أى ذهبت أفكارهم فى أشجار البادية، فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع، وذهلوا عن النخلة.

وإنما ذهبت أفكارهم إلى أشجار البادية، ولم تذهب إلى أشجار الحضر، لأن الأشجار التى تزرع فى البادية إنما تكون أشجاراً مثمرة منتجة ، أما الأشجار التى تزرع فى الحضر تكون للزينة غالبا.

قوله «قال عبدالله» هو عبدالله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما.

قوله «فاستحييت» أى منعه الحياء من أن يقول ما وقع فى نفسه، لأنه كان بمحضر كبار الصحابة: كأبى بكر وعمر وغيرهما، وكان ابن عمر أحدثهم سنا.

تعريف الحياء لغة: تغيير وانكسار يعترى الشخص من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشىء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه،.

تعريف الحياء شرعا: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير فى حق ذى الحق.



بقلم أ. د.: الخشوعى الخشوعى محمد

أستاذ الحديث بجامعة الأزهر

وعضو هيئة كبار علماء الجمعية